في زماننا تتضاعف المعارف – وسطياً – كل عشر سنوات؛ وهذا يعني وجود حاجة مستمرة إلى المزيد من التخصص ، والتركيز في طلب العلم والتوجه البحثي . وهذه بعض الملاحظات السريعة في هذا الشأن .
1- حين نقرأ في تخصص من التخصصات العلمية نكون في بداية أمرنا كمن يدخل إلى غرفة مظلمة؛ حيث يأخذ بتحسُّس الأشياء واكتشافها على سبيل التدرج، وكلما كانت الغرفة أكبر كانت معرفة ما بداخلها أشق، واحتاجت إلى وقت أطول.
وستكون عملية الاكتشاف شبه مستحيلة إذا كانت تلك الغرفة تفتح على دهاليز وممرات وفضاءات فسيحة، كما هو الشأن فيمن يريد فهم (التاريخ الإسلامي)؛ حيث إن عليه أن يتضلع من العلوم السياسية والاجتماعية الاقتصادية وعلوم الإنسان والبيئة وعلوم أخرى.
ولهذا فلابد من التركيز على بلد معين في حقبة زمنية محددة، وإلا كانت أقواله وتحليلاته عمشاء وحولاء ، وربما حجبت أقواله وتحليلاته حقيقة ما جرى في الماضين أو شوَّهته وحرَّفته!
2- التركيز يعني رؤية تفصيلية مدققة في مساحة أو قضية صغيرة، والمرء حين يتخصص في فرع من فروع المعرفة الدقيقة يطلع على شيء محدود لكنه يراه بطريقة أفضل.
أما غير المتخصص فإنه يطلع على الكثير الكثير من المعارف لكنه لا يستطيع أن يراها بشكل واضح، ويجد نفسه عاجزاً عن نقد ما يراه أو تعليله أو الإضافة إليه، ولا يستطيع أحد أن ينجو من هذه المعادلة الصارمة والسنة الماضية؛ وذلك لأن الكمَّ لا يكون إلا على حساب الكيف، كما أن الكيف لا يكون إلا على حساب الكم.
3- نحن لا نريد اليوم الإحاطة بالعلوم والسيطرة عليها والاستثكار منها لغايات ترفيهية، أو لدواعٍ مظهرية وشكلية – كما كانت عليه الحال في بعض مراحل تاريخنا - ، وإنما نريد توظيف المعرفة في خدمة الناس وإرشادهم ومساعدتهم على الوفاء بمتطلبات العبودية لله – تعالى – وتحسين أحوالهم المعيشية. وهذا يتطلب شيئاً مهماً، وهو (الإبداع) في اختيار الموضوعات التي نتخصص فيها، وفي توظيف المعارف والمعطيات التي يتمخّض عنها البحث العلمي الرشيد.
وإذا تأملنا في كثير من البحوث العلمية والرسائل الجامعية التي يشتغل على إنجازها الألوف من الشباب المسلم، فإننا سنجد أن لدينا مشكلة عويصة؛ فهذا باحث يقضي سنوات من عمره في تحقيق كتاب تراثي لا يشكل إخراجه أي إضافة لما هو منشور في فنه.
وربما وجدتَ من يعمل على تحقيق كتاب لم يهتمّ به طلاب العلم وقت تأليفه قبل أربعمئة سنة؛ بسبب ضعفه أو عدم الثقة بمؤلفه، وهذا باحث يشتغل على مسألة ضئيلة وصغيرة وهامشية للغاية، حتى يصح أن نقول فيه: (( إنه يعرف كل شيء عن لا شيء )) ! ويستشعر في نهاية المطاف أنه ليس عنده ما يتحدث عنه ، كما أنه لا يعرف كيف يتخذ منه وسيلة لتشكيل دوره الإصلاحي في الحياة العامة.
4- ليس التركيز الذي نحتاج إليه عبارة عن حشد كمٍّ هائل من المعلومات المتخصصة، فهذا على أهميته ليس هو المطلوب الأساسي ، إنما المطلوب هو توليد مجموعة من الملاحظات الذكية والبارعة التي تساعدنا على فهم الطباع التي فطر الخالق عز وجل الأشياء عليها ، إلى جانب فهم السنن النفسية والاجتماعية التي تحكم حركتنا في هذه الحياة.
إن الشريعة الغراء على مستوى العقيدة والأحكام والآداب ، توفِّر لنا الدليل والنظام الذي علينا اتباعه في التعامل مع الطبائع والسنن.
ومن المعروف أن هناك أفكاراً كثيرة جداً حول نوعية العلاقة التي تربط الثقافة بالطبيعة، وحول تأثير كل منهما في السلوك الإنساني.
نحن نحتاج إلى من يرشدنا إلى كيفية تهذيب الطبيعة بالثقافة، وكيفية التعامل مع سُنَّة من السنن الكونية من أفق معرفتنا بسنة أخرى، وهذا ما ألاحظ غيابه عن كثير من بحوثنا وطروحاتنا؛ والسبب هو عدم وجود قدر كافٍ من الاهتمام برؤية الأشياء على ما هي عليه بعيداً عن الخلفيات الثقافية الموروثة.
5- إذا أردنا أن نستفيد من التركيز في التحصيل العلمي وفي البحث والتطوير ، فإننا نحتاج إلى شيء مهم؛ هو محاولة فهم النشأة الأولى للظواهر التي نتخصص فيها، ومعرفة الأطوار والمراحل التاريخية التي مرت بها.
ونحن جميعاً نعرف أننا لا نستطيع فهم أي شيء على نحو حسن إلا إذا فهمنا تاريخه.
ويؤسفني القول: إن قلة ما نعرفه عن تاريخ التخصصات العلمية والظواهر الاجتماعية التي نحاول استيعابها، هي أكبر نقطة ضعف في مناهجنا وكتبنا وبحوثنا؛ هذا مع أن نحواً من ثلث القرآن الكريم يتحدث عن أخبار السابقين والمراحل التاريخية التي سبقتنا! والله المستعان.
الكاتب: د. عبد الكريم بكار
المصدر: موقع يا له من دين